عنوان الخطبة: تراث الأجداد مرآة الأحفاد
الخطيب: محرز بن صالح كبش
الجمعة 03 رجب 1435 هـ / 02 ماي 2014
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الأفضلية موهبة وكرامة يختص بها من يشاء من عباده، خلقنا في هذه الحياة الدنيا لنعيش متكافلين متآزرين متعاونين متآلفين، وحثنا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، فكان في ذلك صلاح أمرنا ونجاح مسعانا، سبحانه تقدست أسماؤه وتعالت صفاته، ونشهد أن محمداً (ص) عبده ورسوله أرسله هادياً لخير الدنيا والآخرة، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
إن من سنن الله تعالى في هذا الكون تعاقب الليل والنهار، وتعاقب الأزمنة والفصول وتعاقب الأجيال، تلكم سنة الباري فلن تجد لسنته تبديلا ولن تجد لسنته تحويلا يقول الحق تبارك وتعالى: " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" الأنبياء 105
كل جيل يعيش عصره فيبني حضارته على ضوء ما ورثه من الجيل السابق، يحافظ على الإرث والمكتسبات فلا تنثني عزائمه ولا تضعف فرائصه ولا تفتر قواه ولا يشل فكره، بل يشمر على سواعده ليضيف إلى صرح تلك الحضارة ما يشدّ أسسها، ويوطّد أركانها ويحافظ على أصولها وأصالتها يستنير بتلك القيم الروحية والثقافية والإنسانية والاجتماعية التي ضحى من أجلها ذلك الجيل وذاد عن حماها ونافح عن مقومات الأمة لتكون شواهد ومشاهد ناطقة تفصح عن أسرار تلك الحضارة، ومرآة صادقة تنقل رسالة إلى الجيل المتعاقب على هذا البلد الطيب ولسان حاله يقول: هذا تاريخ ثمين وحضارة نفيسة وقيم رفيعة ومجتمع أصيل فاعتزوا بأصالته وتراثه، وحافظوا على درره وكنوزه، وصونوا قيمه ومقوماته واستثمروا منجزاته فيما يعود عليكم بالخير الوفير والنفع العميم، احذروا أن تكونوا معاول هدم بل كونوا معاقل عتيدة ووسائل تشييد وبناء فبهمتكم وشهامتكم تتنسمون ذرى المجد.
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفـعــل مثلما فعــــــلوا
واعلموا – غير معلمين – أن حضارة وادينا - وادي ميزاب- لم تنطلق من فراغ بل كل قطرة من جبين أوائلنا شكّلت لبنة في صرحه الشامخ فغدا رمزاً للكفاح وقبلة للسياح، فلله درّ القائل وهو يشيد بهذا الوادي وينوه بتضحية الأجداد قائلاً:
مزاب الجزائر رمز الكفاح يشيد الصروح ويعلي البنا
يريد ازدهاراً لكل البلاد لترقي خطاه دروب السنا
بصدق النوايا ودون امتنان بما كان يبذله من عنا
ولك أخي الحبيب أن تسأل: كيف حقّق السلف الصالح هذه المكاسب الحضارية؟ وما سرّ هذه الكنوز التي خلّفها الأجداد للأبناء والأحفاد؟ وما واجبنا نحو هذا الإرث الحضاري؟ وما الرسالة التي ينبغي أن نبلّغها أمانة للأجيال؟
أحبة الإيمان:
إنّ سرّ ما حقّقه الأجداد من منجزات يكمن في صحّة العقيدة وصدق الإيمان واليقين بالله وقوة الإرادة والعزيمة، استهانوا بملذات الحياة وزهدوا عن المغريات، وبريق الكماليات، ضحوا بالرخاء والنعيم والنفس والنفيس، وتقلّبوا في الأزمات، لكن بإخلاص النيات والثبات حقّقوا وثبات، وصنعوا المعجزات في هذا الوادي العريق في منطقة نائية لم تتوفّر فيها مرافق الحياة، اتّخذوا من حرصهم وتفانيهم وكدّهم مطايا لتعمير وادينا العزيز رغم شظف العيش وقساوة الطبيعة وشدّة وطأتها، صبروا على عوادي الزمان وصروف الدهر، فلم تسحر عيونهم زراعة فتكون سببا لقدومهم إلى مزاب ولم تسب عقولهم صناعة أو تجارة فتكون دافعاً لإقبالهم، فالمنطقة كانت صحراء جرداء لكن بمعية الله وقوة جلدهم وصدق إرادتهم حوّلوها إلى روضة فيحاء وجنة خضراء.
وكـأني بهم قد دعوا بدعوات إبراهيم النبي – عليه السلام – حين دعا ربّه بأن يجعل الوادي الذي نزل به بلداً آمنا بدل أن كان واديا غير ذي زرع، ويرزقه من الثمرات بما تسحّ عليه غمائمه، وتغدق عليه سحائبه فلا ينضب معينه ولا تغيض منابعه..... " رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ " إبراهيم 37
إخوة الإيمان:
إذا كان البلد الحرام قبلةً للحجيج يفدون من كل فجّ عميق ليشهدوا منافع لهم، فإن وادي مزاب قبلةً للوافدين من السياح للاطّلاع على نضارة آثاره وثرائه وجمال حضارته وهندسة عمرانه وأصول مجتمعه وأصالته.
ما سرّ هذا الاهتمام بأرضنا؟ ولمَ إليها كم تشدّ رحال؟
وكأن إبراهيم النبي دعا لها فجرى إليها الحجّ وهو وصال
من كلّ صوب ينسلون وفيهم من لم تُعقه صعوبة أميال
أرض مباركة نما عمرانها وزكا لأنّ رجالها أبطال
قد حوّلوا أرضنا يباباً جنّة وكأنها للناظرين خيال
وإن ما يشدّ أزر حضارتنا الميزابية تلكم المرتكزات الثمينة التي أسست على تقوى من الله ورضوان فالواجب منا الوفاء لها، والذّود عنها، والحفاظ على كيانها لضمان استمراريتها وبقائها فمن رام المساس بها خيّب الله رجاه ومن رماها بضرّ أحبط الله مسعاه.
أحبتي في الله:
إنّ حضارتنا الميزابية التي نتفيأ أظلالها، وننعم بأريج نفحاتها شيدتها تلكم الأيادي البيضاء من آبائنا وأجدادنا بفعل تعاونهم وتظافر جهودهم، فمجتمعنا – والحمد لله – أقام ويقيم مشاريعه الخيرية على مزية التعاون " التويزة " التي كانت مبدأهم وعلى التضحية ونكران الذات التي كانت ديدنهم، وصدق النية التي كانت رائدهم، اعتمدوها وبلغوا بها شأواً وصيتاً، فكلما حدث نداء للعمل التطوّعي إلاّ وتجدهم مبادرين بل كلّ واحد منهم يودّ أن يكون سبّاقاً إلى الخير وخدمة الصالح العام، يتعاونون في موسم الحرث والحصاد وتسوير البساتين والحدائق، وبناء الأماكن والسدود كما يتعاونون في موسم جني التمور والزيتون، ونظافة الأحياء السكنية والشوارع مؤمنون بأن سعادتهم في الدّنيا والآخرة تتمثّل في قوله تعالى: " وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " المائدة 02
يتعاونون على هذه الأعمال وتلك مناوبة، فكلّما قام أحدهم بعمل كبير إلاّ وجد بجنبه إخوانه يخفّفون عنه أثقاله، وييسّرون له إنجازه، ويستثمرون وقته ويبلّغونه مراده فهم على شاكلة الشاعر القائل:
إذا الحمل الثقيل تعاورته أكف القوم خفّ على الرقاب
أي نعم ففي الاتحاد قوة وفي التفرقة ضعف وخوَر.
تأبى الرّماح إذا اجتمعن تكسّراً وإذا افترقن تكسّرت آحاداَ.
أيها المؤمنون:
لنكن على يقين أنّ الله معنا في اتحادنا وتآلفنا وتعاوننا وتآزرنا، فلنثمن هذه المكاسب الحضارية التي خلّفها لنا أجدادنا.
فالله نسأل أن تكون نوراً في أعين الأوفياء والمنصفين، وإبرة في أعين الحاقدين الحاسدين ونستعيذ بالله من شرّ حاسد إذا حسد.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم إنه كان للأوابين غفوراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل القائل لنبيه في محكم التنزيل " فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " الأعراف 176
نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين.
أيها الإخوة المؤمنون:
إنّ تراث آبائنا وأجدادنا زاخر، فقد خلّد مآثرهم في ذاكرة التاريخ، وفي سجلّ الحضارة وإضافة إلى ما عرضناه من صور ونماذج تعبّر عن تضحياتهم وكفاحهم وصبرهم على الظروف والصعوبات التي ألمّت بهم، كانوا محافظين على دينهم وهويتهم وأصالتهم وتقاليدهم وأعرافهم التي تنمّ عن ثقافتهم الأصيلة، وأخلاقهم النبيلة، متمسكين بوحدتهم وتآلفهم في إقامتهم وظعنهم.
ففي موسم الصيف وبعد رحيلهم إلى الأجنة يقيمون حملات تطوعية كتنظيف الأجمات والشوارع والأحياء، والصدقات التي يعبّر عنها بلغتنا الميزابية " نفوشات ".
يشغلون أولادهم ببعض الألعاب الموسمية والتي هي جزء من الثقافة الشعبية، فتشغل أوقات فراغهم وتوطّد علاقات الصداقة بينهم، وتنمي ذكاءهم ومهاراتهم، وتروح عن نفوسهم، وفي فصل الخريف وبعد جني التمور يقيمون الصدقة فيجتمعون ويروون لأبنائهم وحفدتهم تلك المقاصد التي فكّر فيها أجدادهم وتركوها ميراثا حضارياً لمن بعدهم، وفي أمسية اليوم الذي يليه يزمّون أمتعتهم، ولوعة الفراق تملأ جوانهم وتسحّ بغروب الدّمع آماقهم يتصافحون ويتسامحون وكلّ واحد منهم يودّع الآخر على أمل أن يجمعهم الموسم الجديد في خير وعافية، أو يجمعهم على سرر متقابلين في جنّة الخلد.
أحبّة الإيمان:
المحافظة المحافظة على هذه المكاسب الحضارية، والتقاليد الموروثة، والتمسّك التمسّك بعقيدتنا وأصالتنا وهويتنا ولنعضّ على ميراث الأجداد عضّ أشحّة خشية أن يسوء الحال. ولنعتبر بمن فرّط وضيّع فكان مآله الزوال، فاستبدال المحاسن بالمساوئ خبال.
تلكم صفحة مشرقة من كفاح أجدادنا الناصع، فلا نضرب عنه صفحاً، بل نستلهم منه القيم، ونستروح من مكنوناته العبر:
هلاّ أخذنا عبرة من غيرنا من فرّطوا في الصالحات فزالوا
عضّوا على الميراث عضّ أشحّة إني لأخشى أن يسوء الحال
فنكون ممن لا أصالة عندهم ممن إذا رأوا الحداثة مالوا
من غير تمحيص لبعض فوائد وإذا فعلنا فالفلاح محال
إنّ التمسك بالأصالة واجب لكنّه قبل الكـلام فِـعال
إخوة الإيمان:
لنكن يداً في يدٍ فاليد الواحدة لا تصفق، والطير المقسوم الجناح لا يحلّق، ولنخمد كلّ من يرفع عقيرته داعياً إلى التفرقة مهما يكن قائله، ولنبارك كل عمل تتجلّى فيه وحدتنا، ولا يعنينا من فاعله، لأن الرجال يعرفون بالحقّ ومخطئ من يعرف الحقّ بالرجال.
ولنتق الله في تصرفاتنا وأعمالنا، ولنذكر قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " آل عمران 77
أحبة الإيمان:
إنّ حياة رسولنا الكريم حافلة بالذكريات الخالدة، ومنها ذكرى الإسراء والمعراج لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في السابع والعشرين من شهر رجب الحرام، وتعدّ إضاءة من الإضاءات المشرقة التي تملأ جوانح المؤمنين حبّا وتعظيماً لرسول الله، وتغمر حياتهم عقيدة وعبادة وقدوة واهتداء " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " الإسراء 01
أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السموات واحدة فواحدة حيث السدرة المنتهى والبيت المعمور، فتلقى عن ربّه افتراض خمسين صلاة على أمته، وبإرشاد من سيدنا موسى عليه السلام، كان يطلب التخفيف حتى بقيت خمساً في العمل وخمسين في الثواب، ثم رجع من ليلته وعاد إلى حيث أتى، بعدما رأى من آيات ربّه الكبرى، إنها القدرة الإلهية في الكشف عن أمكنة سحيقة، وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة، كما تتجلّى في هذه الذكرى رحمة الله بعباده والكشف عن أسرار ملكوته، فسبحان الله العلي الكبير.
أحبتي في الله:
لنجأر إلى الله بالدعاء ليضمّد جراحاتنا، ويبدّل خوفنا أمنا، ويخلف من خزائنه لكل من فقد مسكنا أو متجراً أو جناناً، ويلهمنا الصبر على من فقدنا من الأشاوس في المحنة التي ألمّت بنا " إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ " الزمر 10
وكأني بالحكيم يواسينا بقوله:
كفكف دموعك لا حزن ولا ألم فبعد عسر أرى الأيام تبتسم
جراح قلبك رغم العمق بَلسمها معية الله تأسـوها فتلتـئم
الله يُخلف ما قد ضاع من منح أضعاف أضعافها يا نعم ذا الكرم
فاللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ، اللهم اهد ولاة أمورنا ووفقهم إلى ما فيه الخير والصلاح.
اللهم ضمّد جراحاتنا وخفّف لوعتنا وأمّن روعتنا، اللهم وحّد صفوفنا واجمع كلمتنا على الحق المبين
اللهم يا كريم إنا ندعوك بما دعاك به الأواه الحليم، خليلك إبراهيم فاستجب لنا كما استجبت له يا رحمان يا رحيم: " رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " البقرة 126
وصلّ اللهم وسلّم على محمّد وعلى آل محمد، وعلى إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.